"سكترما" هو مصطلح عسكرى يعنى الرصاصة المرتدة التى تقتل صاحبها واستخدم بكثرة فى حروب المدن وقد استخدم بكثرة فى حرب غزة ولبنان، وتدور أحداث الرواية الرئيسية حول قضية التطبيع مع إسرائيل، وظروف المجتمع المصرى قبل ثورة يناير.
تعد سكترما هى العمل الخامس له بعد ثلاث مجموعات قصصية وهى "لوزات الجليد، رائحة الخشب، بلوتوث" رواية "أوطان بلون الفراولة".
الرواية تناقش قضية التطبيع، استعان فيها بشخصيات مؤيدة للتطبيع وأخرى رافضة للتطبيع.
ومن الشخصيات الحقيقية التي ذكرها المؤلف في روايته المغنية "إيما شاه" وهي كويتية تدعم فكرة التطبيع وتغني بالعبرية، وأشار البوهي إلى أنه استئذنها قبل إدراج أسمها بالرواية وأن الحوار الذي أجراه معها حقيقي وموجود في الرواية، كذلك الكاتب علي سالم الذي زار إسرائيل بعد معاهدة أوسلو.
جزء من الرواية:
لم أعد طفلة صغيرة لأعاقب..الآن أنا كبيرة جداً)
لا أعلم لماذا تضعون قضية الوطن العربى فى رقبتى، فى حين أن هناك من أجرم فى حقنا جميعاً ويعيش الآن حراً معززاً مكرماً، أما أنا فقد وجب على العقاب، فعندما قبلت ترجمة مؤلفاتى إلى العبرية لم يخطر ببالى للحظة واحدة أننى ارتكبت ذنباً عظيماً فى حق وطنى الرائع الكبير الضخم، فقناعتى أن الكلمة لا جنس لها ولا وطن، بل هى تنطلق منا فى فضاءات مفتوحة، لكن ما أذهلنى قيام القيامة وكأنى هذا الذنب الأخير الذى هبط على أرضنا العربية، أين كانوا هؤلاء الذين يطالبون بإسقاط هويتى عندما خرج أبى من منزلنا ببورسعيد يبحث عن مأوى بعد هزيمة مخزية (النكسة بالمعنى اللطيف)، وهجرنا جميعاً أوطاننا الصغيرة ليذلنا خلق الله فى بلاد الله، فولدت أنا على أطلال الأسطورة المقدسة التى سقطت سهواً فى ليلة ظلماء، هدم بيتنا.. هدمت عائلتى.. ومات أبى غريباً..وهدمت أنا فى وطن أراد أهله منى كل شىء حتى لحمى ودمائى، طردنا ألف مرة من ألف بيت.. أمى جميلة جداً.. تزوجت أمى مرات ومرات وضاجعنى أزواجها مرات ومرات،وكأنهم شياطين مستنسخة من شيطان واحد (لو نطقت بكلمة هنطردك أنت وأمك فى الشارع) وتزوجت أنا من رجل أبله لم يضاجعنى أبداً، بل ظل يحشو رأسه فى الفراش ويبكى، فلم أشعر به رجلاً يوما ما لأحتمى به بل كان ذلاً جديداً أضيف إلى صفحات انكسارى، ورغم ذلك قبلت به كى أعيش ..فقط أعيش- ضل راجل ولا ضل حيطة- لكنى لم أسلم من تلك الأنامل الملساء التى كانت تمتد إلى من خلف فراشى حتى انصعت لها– أنا بشر- فاكتوى جسدى بشراهتها التى لم ترحمنى فقررت أن أكون إنسانة أخرى غير تلك الطفلة الطريدة التى كانت تعاقبها أمها بدموع الشموع الملتهبة إذا ارتكبت خطأ ما، فتتبخر على جلدى وتذوب دموعى فى تابوت مفتوح ينتظرنى- لم أكن أتخيل أن التلصص من فتحة باب غرفتها خطأ فادحاً- حتى رأيتها تتلوى فى أحضان ذكورها وتصرخ شبقاً كما أصرخ أنا فى وجه الحياة بأن ترفع يدها عنى، فأيقنت أن للأخطاء لذة تماماً كلذة الجسد، فكان يجب أن أتحور لأحمى نفسى بعد أن فقدت كل سبل الأمان، فتمردت على كل شىء ولم أقتنع إلا بهواجسى فقط، فكانت ملاذى الأول والأخير، جاهدت كثيراً كى أتعلم، وأدخل الجامعة فى حين أن أمى كانت تحبط من عزيمتى لأنها فقدت كل طموح يمكن أن تحلم به، لكن إصرارى كان أقوى من أى إحباط جاء ليأكلنى، فعملت خادمة بالبيوت، وبائعة فى محلات الملابس، وأدوات التجميل، ونادلة فى كوفى شوب وبار،وغاسلة صحون بأحد الفنادق الفارهة، وأحياناً (Room service) إذا لزم الأمر-أعلم جيداً أن هناك من سيظن أننى أحكى فيلماً عربياً طويلاً- لكنها حقاً حقيقتى التى لا مفر منها، ولست ملزمة أن أسردها أو أدافع بها عن نفسى لأننى لست متهمة، ولكنى أردت أن أضع هؤلاء أمام وجههم ليرونى جيداً، فأنا عذراء سفكت دماؤها، وامرأة أعادت جمع نفسها حتى استطعت حقن شرايينى بدماء أخرى، فى مكان آخر، بلغة أخرى، بعد أن باعنى أهلى وبعت كل شىء، وأصبحت ابنة لكل وطن يشعرنى بوجودى وكيانى لا مجرد روح تسير على الرصيف مع ملايين البشر، تقطف بعض الأنفاس لتعيش، وتستعير بعض السنتيمترات لتتحرك، وتنظر للقمة العيش من بعيد وتركض لتحظى بها، وعندما تصل إليها تموت، وأنا لا أريد أن أموت مقهورة، والآن هم يلقون على تهمة الخيانة العظمى لأننى وضعت يدى بيد اليهود قاتلى الأطفال وترجمت مؤلفاتى إلى لغتهم باعتبارى منصاعة للتطبيع، الأمر مضحك حقاً- هل الترجمة تطبيع؟!- فقد ترجمت أعمال يوسف إدريس ومحمود درويش وثلاثية محفوظ للعبرية، واستقبل محفوظ مترجمه الإسرائيلى (ساسون سوميخ) فى منزله عشرات المرات ولم يتحرك أحد ولم يتهمه أحد بالخيانة العظمى، كما اتهمت أنا،بالرغم من أن (ساسون) هو نفسه الذى ترجم مؤلفاتى، فمن الواضح أنهم نسوا تلك المعاهدة الفاشلة التى وقعها السادات مع الإسرائيليين بمباركة الأمريكان، نسوا الشوارع والفنادق والمنتجعات التى تعج بهم فى سيناء والغردقة وشرم الشيخ، نسوا نجمة داود التى ترفرف فى سماء القاهرة، نسوا معبر رفح وتلك المصيدة الكبرى التى شاركوا فى صناعتها لاعتقال الشعب الفلسطينى بعد اتفاقية (أوسلو)، نسوا مصانع الطوب المصرية التى ساهمت فى بناء المستوطنات الإسرائيلية فى القدس، نسوا قضية تصدير الغاز الذى يدفئ تل أبيب، نسوا دماء أسراهم وشهداء الحروب، نسوا أن إسرائيل أصبحت واقعاً لا مفر منه، نسوا أنفسهم تماماً، وفقط تذكروا أنى خائنة..أقول لهم جميعاً ابحثوا عن الخائن وستجدونه بينكم ..وعاقبوه أما أنا فلم أعد طفلة صغيرة لأعاقب، الآن أنا كبيرة جداً.-يتبع-د.سحر شاهينحينما انتهيت من قراءة المقال، نظر لى أبى وفرك حبات مسبحته بعصبية (إيه رأيك فى الكلام الفارغ المكتوب ده يا يوسف؟!)، طويت الجريدة وصمت قليلاً لأفكر فى رد ما، فما كتبته سحر لم يترك لى ثغرة واحدة أنفذ منها، فإذا خلصت من قضية التطبيع، سأقع فى قضية الأخلاق والقيم والمجتمع الطاهر، وإذا خلصت من قضية الأخلاق سأقع مع الحكومة، فما كان منى إلا اللعب على هذا الوتر، فأجبته على استحياء (عندها حق..الحكومة دى هى سبب ضياعنا كلنا)، فرفع وجهه فى وجهى ثم قال بحدة موجهاً سبابته نحوى (اسمع يا ابنى هى فاكره إنها بالكلمتين دول هتضحك علينا؟!..دى قضية وطن فاهم يعنى إيه وطن؟! ..دافع عنها زى ما تحب ده شغلك..لكن يوم ما هتخسر مفيش حد هيرحمك ولا هيرحمها)، لم أستطع الرد ونظرت لجدتى فاطمة التى وقفت على باب غرفتها عندما سمعت صوت أبى يرتفع، فاستأذنت فوراً للخروج..أغلقت الباب خلفى ووقفت كمن يكتم تأوهاته من ألم شديد، جذبت نفساً طويلاً وضغطت زر المصعد ليقلنى إلى شقتى بالطابق العلوى.قبلت ابنى يس وربت على ظهره عندما انفتح الباب ورأيته أمامى، فركض للداخل كى يبلغ أمه بحضورى (بابا جه يا ماما)، خرجت أمانى من المطبخ ودون أى تعقيب سألتنى (الغدا جاهز.. هتتغدا دلوأتى؟) فابتسمت لها وهززت رأسى بالموافقة، ثم دخلت إلى غرفة نومى لأخلع ملابسى، لكنى تفاجأت بوجود الرواية ملقاة على السرير، ضغطت بأصابعى على جبهتى وأخذت أدور فى مكانى، ثم غادرت الغرفة سريعاً وأنا أنادى بأعلى صوتى على زوجتى فخرجت مفزوعة (فيه إيه خير؟) فأشرت ناحية غرفة نومى طارحاً السؤال (مين إلى جاب الكتاب ده هنا؟)، فأجابت مستغربة (كتاب إيه؟!)، سحبتها خلفى إلى الدخل (الكتاب ده؟!)، سقطت يدى..حتى كدت أسقط معها عندما رأيت السرير خالياً تماماً، نظرت إليها ثم ضغطت بأصابعى على جبهتى مرة أخرى وبلهجة متراجعة (مفيش خلاص..أنا بس مرهق شوية ومحتاج أنام)، فردت مشفقة (يعنى مش هتتغدى معنا؟)، تسمرت مكانى ولم أنبس بكلمة واحدة، ولم أسمع حديثها حتى خرجت هى، أغلقت الباب، وأكملت خلع ملابسى، أطفأت الأنوار ثم استلقيت على سريرى بجسد يرتجف.. هل شبح هو أم أنها تلك الحقيقة التى أؤمن بها ولكنى أصر على خداعها بتمردى، فجاءت تطاردنى حتى بفراشى؟ كان كل شىء يطاردنى فى تلك اللحظة، توسلات أمى، ووجه أبى الغاضب، وصمت جدتى فاطمة، وضجيج الشوارع والمقاهى والناس، وصندوق البريد، والرسائل، وعم مصطفى فراش المكتب الذى طالما ردد على مسامعى (أنا إللى مربيك يا وليدى)، حتى حضرتنى حكاية الصياد الهندى وابنته التى قرأها على جدى من كتابه القديم لكنى أبداً لن أمزق الشبكة ليعود السمك إلى الماء مثلما فعل هو، لأننى لا أندم أبداً على شىء فعلته، وسأستمر فى جمع صيدى الحلال حتى آخر رمق، قاطعنى صوت الهاتف المحمول فمددت يدى وجذبته من على (الكوميدون)، كان اسمها يلمع فى الظلام الحالك (سحر شاهين)، فحولت الهاتف إلى الوضع الصامت، وأعدته إلى مكانه، ثم أدرت ظهرى مستغرقاً فى النوم.هبطت من سيارتى، ووقفت أمام باب الجريدة متردداً، أو مرتبكاً، بل ربما كنت خائفاً كخوفى من الظلام، فالخوف دائما ما يجبرنى على فعل أشياء أكبر بكثير من التفكير فى ارتدادها، كجندى جبان أراد أن يؤنس نفسه فى الظلام فأطلق رصاصة على جدار من فولاذ دون أن يعلم أنها سترتد إلى قلبه وتقتله، لكن فضولى كان أقوى بكثير من أى خوف أو ضلالات لأشباح مندثرة، فأيقنت أن ما يدفعنى إلى هنا هو الرهان على نفسى التى تنزعنى لأحط على تلك الأرض، أو تقذفنى بعيداً إلى أرض أخرى أبنى فيها بيتاً،وحلماً، وإنسانا يشبهنى، فظل قلبى ظل يدق، رعباً.. وجعاً.. ألماً.. وأشياء أخرى أشعرها، أو لا أشعرها لكنها أقرب للموت.. اقتربت من الباب الزجاجى ،ودفعته إلى الداخل، فإذا بموظف الاستقبال يوقفنى (حضرتك عايز مين يا أستاذ؟)، حدقت فى وجهه متلجلجاً، فقام من مقعده وأعاد السؤال (حضرتك طالع لمين يا أستاذ؟)، فأشرت لأعلى مجيباً بهدوء (طالع للأستاذ ضياء عزام)، فنظر الموظف لزميله مبتسماً ثم التفت إلى محتفظاً بشفتيه منفرجتين (والله سيادتك هو مش موجود)، فسألته مستفسراً (هيكون موجود إمتى؟)، فزاد من انفراج شفتيه ثم أجابنى بلهجة شعرتها ساخرة (حضرتك الأستاذ ضياء عزام مات من حوالى سنتين ونص يافندم..الله يرحمه)، نظرت نحو الباب الزجاجى المتأرجح وفكرت أن أركض بعيداً عن هذا المجنون، لكنى تظاهرت بتماسكى، جف ريقى تماماً وتصلبت أحشائى، فطلبت من الموظف كوباً من الماء، غاب للحظات وعاد به على الفور ربما لأن ملامحى المهلهلة كانت واضحة، فرغت من شرب الجرعة الأخيرة ثم شكرته، واتجهت لأقطع المسافة القصيرة بينى وبين الباب بخطى متعثرة، سمعت خلالها حواراً جانبياً بين موظفى الاستقبال (إيه الحكاية؟! ده مش أول شخص يسأل عن الأستاذ ضياء عزام الأسبوع ده)، تراءت السيارات المندفعة أمامى من خلف الزجاج كأنها كتل تتوالى من الماضى، فخرجت إلى الشارع أبحث عن شىء لا أعلمه..